الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
مَنْ كَانَ يَشْعُرُ لِنَفْسِهِ بِقِيمَةٍ أَوْ يَجِدُ لَهَا حَقًّا فِي أَنْ تَعِزَّ وَتُكْرَمَ، تَرَاهُ إِذَا خَلَا بِنَفْسِهِ وَتَذَكَّرَ أَنَّهُ أَلَمَّ بِنَقِيصَةٍ يَتَأَلَّمُ وَيَتَمَلْمَلُ وَيَسْتَعِيذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. وَإِذَا تَذَكَّرَ الْمُؤْمِنُ أَنَّ قَلْبَهُ الَّذِي تَشَرَّفَ بِمَعْرِفَةِ اللهِ تعالى: وَأَنَّ شَرَفَ تِلْكَ الْمَعْرِفَةِ خَلَّصَهُ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ لِغَيْرِهِ وَصَيَّرَهُ مَرْبُوبًا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، فَهُوَ فِي ذَلِكَ مَعَ أَرْفَعِ وَأَكْرَمِ كَرِيمٍ سَوَاءٌ- إِذَا ذَكَرَ ذَلِكَ، لَمْ يَرَ مِنَ اللَّائِقِ بِمِثْلِ هَذَا الِاخْتِصَاصِ أَنْ يُجَاوِرَهُ مَا يُدَنِّسُهُ مِنَ الِاسْتِبْعَادِ لِمَا يُذِلُّهُ، بَلْ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ الشُّعُورَ الظَّاهِرَ وَالْعِرْفَانَ الْهَادِيَ إِلَى مَقَامَاتِ الْكَرَامَةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُزَاحِمَهُ فِي مَوْطِنِهِ مِنَ الْقَلْبِ دَنَسٌ مِنْ رِجْسِ الرَّذَائِلِ فَيَنْفِرُ مِنْ هَذِهِ الْمُزَاحَمَةِ وَتَثْقُلُ عَلَيْهِ وَيَسْهُلُ عَلَيْهِ التَّزَكِّي مِمَّا أَلَمَّ بِهِ وَالْإِنَابَةُ إِلَى اللهِ تعالى قَالَ: لِهَذَا بَدَأَ اللهُ تَعَالَى تَذْكِيرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا بَدَأَ وَثَنَّى بِمَا ثَنَّى.وَهُوَ يَتَضَمَّنُ مِنَ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ مَا يُشْعِرُ بِغِلَظِ طِبَاعِهِمْ وَفَسَادِ قُلُوبِهِمْ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَتَأَدَّبُ بِإِحْيَاءِ إِحْسَاسِ الْكَرَامَةِ، يُؤَدَّبُ بِالتَّأْنِيبِ وَالْإِهَانَةِ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} مُؤَكِّدٌ لِمِثْلِهِ فِي الْآيَةِ 40 وَتَمْهِيدٌ لِمَا عَطَفَهُ عَلَيْهِ مِنْ تَفْصِيلِ الْإِجْمَالِ فِي الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَمَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ بَيَانِ كُفْرِهِمْ لِلنِّعَمِ، وَمَا تَخَلَّلَهَا مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْحُجَجِ، وَأَوَّلُهُ وَأَعْلَاهُ قَوْلُهُ: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} أَيْ: أَعْطَيْتُكُمْ مِنَ الْفَضْلِ- وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِيمَا يَحْسُنُ- مَا لَمْ أُعْطِ غَيْرَكُمْ مِنَ الشُّعُوبِ- حَتَّى ذَاتِ الْمَزَايَا الدُّنْيَوِيَّةِ- كَالْمَصْرِيِّينَ وَسُكَّانِ الْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ.قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: نَادَاهُمْ بِاسْمِ أَبِيهِمُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ عِزِّهِمْ وَسُؤْدُدِهِمْ وَمَنْشَأُ تَفْضِيلِهِمْ، وَأَسْنَدَ النِّعْمَةَ إِلَيْهِمْ جَمِيعًا لَا إِلَيْهِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ النِّعْمَةَ عَمَّتْهُمْ، وَالتَّفْضِيلَ شَمَلَهُمْ، ثُمَّ طَفِقَ يُفَصِّلُ النِّعْمَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا مُجْمَلَةً فِيمَا سَبَقَ بِذِكْرِ أُمَّهَاتِ أَنْوَاعِهَا، فَذَكَرَ تَفْضِيلَهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ بِمَحْضِ كَرَمِهِ وَفَضْلِهِ، فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْبَشَرِ، وَالتَّفْضِيلُ هُوَ مَنَاطُ الْأَخْذِ بِالْفَضَائِلِ وَتَرْكِ الرَّذَائِلِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَرَى نَفْسَهُ رَذْلًا خَسِيسًا، لَا يُبَالِي مَا يَفْعَلُ.وَمَنْ يَرَى نَفْسَهُ مُفَضَّلًا مُكَرَّمًا، فَإِنَّهُ يَتَرَفَّعُ عَنِ الدَّنَايَا وَالْخَسَائِسِ الَّتِي تُدَنِّسُ شَرَفَهُ وَتَذْهَبُ بِفَضْلِهِ. وَالْحِكْمَةُ فِي التَّذْكِيرِ بِالتَّفْضِيلِ: أَنْ يَتَذَكَّرُوا أَنَّ الَّذِي فَضَّلَهُمْ لَهُ أَنْ يُفَضِّلَ غَيْرَهَمْ كَمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَأُمَّتِهِ، وَتَنْبِيهُهُمْ إِلَى عَدَمِ الذُّهُولِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ لِيُذَكِّرُوهَا عِنْدَ أَمْرِ النَّاسِ بِالْبِرِّ، وَيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ أَوْلَى بِأَنْ يَبِرُّوا مِمَّنْ يَأْمُرُونَهُمْ بِالْبِرِّ؛ لِأَنَّهُمْ يَنَالُونَ الْكِتَابَ الدَّاعِيَ إِلَيْهِ وَهُوَ آيَةُ تَفْضِيلِهِمْ. وَإِلَى أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِاسْتِعْمَالِ الْفِكْرِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي أُوتِيَهَا النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَجْدَرُ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ بِالْإِيمَانِ بِهِ، فَإِنَّ الْمُفَضَّلَ أَوْلَى بِالسَّبْقِ إِلَى الْفَضَائِلِ مِمَّنْ فُضِّلَ هُوَ عَلَيْهِ.ثُمَّ إِنَّ الْفَضْلَ عَلَى الْعَالَمِينَ إِنْ كَانَ بِكَثْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِمْ فَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى عُمُومِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ شَعْبٌ مِنَ الشُّعُوبِ يُزَاحِمُهُمْ فِي هَذِهِ الْمَزِيَّةِ، وَلَا تَقْضِي هَذِهِ الْفَضِيلَةُ بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْهُمْ أَفْضَلَ مِنْ كُلِّ فَرْدٍ مَنْ غَيْرِهِمْ، وَلَا تُنَافِي أَنْ يَفْضُلَهُمْ أَخَسُّ الشُّعُوبِ- بَلْهَ غَيْرُهُ- إِذَا هُمُ انْحَرَفُوا عَنْ هَدْيِ أَنْبِيَائِهِمْ وَتَرَكُوا سُنَّتَهُمْ وَاهْتَدَى إِلَيْهَا ذَلِكَ الشَّعْبُ الَّذِي كَانَ مَفْضُولًا. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ التَّفْضِيلِ هُوَ الْقُرْبُ مِنَ اللهِ تَعَالَى بِمَرْضَاتِهِ، فَلابد مِنْ تَخْصِيصِهِ بِأُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُهْتَدِينَ بِهِمْ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِمْ وَالتَّابِعَيْنِ لَهُمْ فِيهِ، وَمِنْ تَقْيِيدِهِ بِمُدَّةِ الِاسْتِقَامَةِ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي اسْتَحَقُّوا بِهِ التَّفْضِيلَ.ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} أَيْ وَاحْذَرُوا يَوْمًا عَظِيمًا أَمَامَكُمْ سَيَقَعُ فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ مَا لَا مَنْجَاةَ مِنْ هَوْلِهِ إِلَّا بِتَقْوَى اللهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَمُرَاقَبَتِهِ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، فَهُوَ يَوْمٌ لَا تَقْضِي فِيهِ نَفْسٌ- مَهْمَا يَكُنْ قَدْرُهَا عَظِيمًا- عَنْ نَفْسٍ مَهْمَا يَكُنْ ذَنْبُهَا صَغِيرًا شَيْئًا مَا، كَحَمْلِ وِزْرِهَا أَوْ تَكْفِيرِ ذَنْبِهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى (35: 18) وَصَفَ الْيَوْمَ بِهَذَا الْوَصْفِ وَلَمْ يَقُلْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَثَلًا؛ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَالْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، فَلَيْسَ فِيهِ مَا اعْتَادَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مِنْ دِفَاعِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ. وَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى فِي أَوَّلِ سُورَةٍ بِقَوْلِهِ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [1: 4] ثُمَّ وَصَفَهُ هُنَا بِوَصْفٍ آخَرَ يُنَاسِبُ الْأَوَّلَ فَقَالَ: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَلَا تُقْبَلُ بِالتَّاءِ، وَالْمَعْنَى: لَا يَقْبَلُ مِنْهَا أَنْ تَأْتِيَ بِشَفِيعٍ يَشْفَعُ لَهَا، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا فِدَاءٌ أَوْ بَدَلٌ إِنْ هِيَ اسْتَطَاعَتْ أَنْ تَأْتِيَ بِذَلِكَ كَمَا يَظُنُّ أَكْثَرُ الْكُفَّارِ، وَلَنْ تَسْتَطِيعَ.قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَكَأَنَّهُ أُرِيدَ بِالْآيَةِ نَفْيُ أَنْ يَدْفَعَ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ الْعَذَابَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُحْتَمَلٍ، وَفَصَّلَ هَذِهِ الْوُجُوهَ بِمَا يَشْمَلُ الثَّلَاثَ الْمَنْفِيَّةَ، وجملة الْمَعْنَى: أَنَّهُ يَوْمٌ لَا تَأْثِيرَ لِأَحَدٍ فِيهِ وَلَا كَسْبَ، وَلَا يَنْطِقُ فِيهِ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ- تَعَالَى. وَقَالَ الْجَلَالُ: أَيْ لَيْسَ لَهَا شَفَاعَةٌ فَتُقْبَلُ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تعالى حكاية عَنِ الْمُجْرِمِينَ فِي الْآخِرَةِ: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} [26: 100] الآية وَفَسَّرَ الْعَدْلَ بِالْفِدَاءِ قَالَ: {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} أَيْ يُمْنَعُونَ مِنْ عَذَابِ اللهِ.قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَا دَلِيلَ فِي هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرَهُ فِي مَسْأَلَةِ الشَّفَاعَةِ، وَإِنَّمَا السِّيَاقُ فِي الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ يَوْمٌ تَنْقَطِعُ فِيهِ الْأَسْبَابُ، وَتَبْطُلُ مَنْفَعَةُ الْأَنْسَابِ، وَتَتَحَوَّلُ فِيهِ سُنَّةُ هَذِهِ الْحَيَاةِ مِنِ انْطِلَاقِ الْإِنْسَانِ فِي اخْتِيَارِهِ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ بِالْعَدْلِ وَالْفِدَاءِ، وَيَسْتَعِينُ عَلَى الْمُدَافَعَةِ بِالشَّفَاعَةِ عِنْدَ السَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ، وَقَدْ يُوجَدُ لَهُ فِيهَا أَنْصَارٌ يَنْصُرُونَهُ بِالْحَقِّ وَبِالْبَاطِلِ عَلَى سَوَاءٍ، بَلْ يَكُونُ لَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ شَأْنٌ آخَرُ مَعَ رَبِّهِ، تَضْمَحِلُّ فِيهِ جَمِيعُ الْوَسَائِلِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ إِخْلَاصِهِ فِي عَمَلِهِ، قَبْلَ حُلُولِ أَجَلِهِ، وَرَحْمَةِ اللهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ لَهُ، لِضَعْفِ حَوْلِهِ، وَضِيقِ طُولِهِ، وَأَنَّهُ يَوْمٌ لَا يَتَحَرَّكُ فِيهِ عُضْوٌ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْبِسَ بِكَلِمَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (82: 19).كَانَ الْيَهُودُ الْمُخَاطَبُونَ بِبَيَانِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ كَغَيْرِهِمْ مِنْ أُمَمِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَهْلِ الْمِلَلِ الْوَثَنِيَّةِ، كَقُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ وَالْيُونَانِ يَقِيسُونَ أُمُورَ الْآخِرَةِ عَلَى أُمُورِ الدُّنْيَا، فَيَتَوَهَّمُونَ أَنَّهُ يُمْكِنُ تَخَلُّصُ الْمُجْرِمِينَ مِنَ الْعِقَابِ بِفِدَاءٍ يُدْفَعُ بَدَلًا وَجَزَاءً عَنْهُ- كَمَا يَسْتَبْدِلُ بَعْضُ حُكَّامِهِمْ مَنْفَعَةً مَالِيَّةً بِعُقُوبَةٍ بَدَنِيَّةٍ- أَوْ بِشَفَاعَةٍ مِنْ بَعْضِ الْمُقَرَّبِينَ إِلَى الْحَاكِمِ يُغَيِّرُ بِهَا رَأْيَهُ وَيَفْسَخُ إِرَادَتَهُ. وَلَقَدِ اكْتَسَحَ الْإِسْلَامُ هَذِهِ الْعَقَائِدَ وَآثَارَهَا الْعَمَلِيَّةَ بِالتَّوْحِيدِ الْخَالِصِ، وَأَتَى بُنْيَانَهَا مِنَ الْقَوَاعِدِ، وَلَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَسْلَمُوا مِنْهَا فَقَدْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ أَقْوَامٌ يَحْمِلُونَ أَوْزَارًا مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ، وَلَمْ يُلَقَّنُوا الدِّينَ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَا كَمَا أَرْشَدَ الْقُرْآنُ، وَلَكِنَّهُمْ تَقَلَّدُوهُ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ، وَلُقِّنُوهُ كَمَا تُرْشِدُ إِلَيْهِ كُتُبُ التَّقْلِيدِ مِنْ مُصْطَلَحَاتٍ مُبْتَدَعَةٍ، فَكَانُوا عَلَى بَقِيَّةٍ مِمَّا كَانَ عِنْدَهُمْ وَعَلَى جَهْلٍ بِالْإِسْلَامِ، وَجَاءَ قَوْمٌ آخَرُونَ تَعَمَّدُوا الْإِفْسَادَ فَجَعَلُوا بِالتَّأْوِيلِ الْبَاطِلَ حَقًّا، وَالْكَذِبَ صِدْقًا.وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا بَعْضَ الْعَادَاتِ الْمِصْرِيَّةِ الَّتِي لَا تَزَالُ يُعْمَلُ بِهَا بِاسْمِ الدِّينِ، وَهِيَ مِنْ إِرْثِ قُدَمَاءِ الْوَثَنِيِّينَ، كَإِعْطَائِهِمْ لِغَاسِلِ الْمَيِّتِ شَيْئًا مِنَ النَّقْدِ يُسَمُّونَهُ أُجْرَةَ الْمُعَدِّيَةِ أَيْ أُجْرَةَ نَقْلِهِ إِلَى الْجَنَّةِ. وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْمَلُونَهُ لِلْأَمْوَاتِ، وَلِمَنْ يَعْتَقِدُونَ فِيهِمُ الْوِلَايَةَ وَالْقُرْبَ مِنَ اللهِ، وَمِثْلُهُ أَكْثَرُ تَقَالِيدِهِمْ فِي بِنَاءِ الْمَقَابِرِ وَاحْتِفَالَاتِهَا.ثُمَّ ذَكَرَ الْمُكَفِّرَاتِ الَّتِي يَعْتَقِدُهَا الْيَهُودُ كَقُرْبَانِ الْإِثْمِ، وَقُرْبَانِ الْخَطِيئَةِ، وَقُرْبَانِ السَّلَامَةِ، وَالْمَحْرَقَةِ وَالِاكْتِفَاءُ مِمَّنْ لَمْ يَجِدِ الْقُرْبَانَ بِحَمَامَتَيْنِ يُكَفِّرُ بِهِمَا عَنْ ذَنْبِهِ، وَقَالَ: وَكَانُوا يَفْهَمُونَ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تُكَفِّرُ الذُّنُوبَ بِذَاتِهَا، وَالْحَقُّ أَنَّهَا عُقُوبَاتٌ لَا مُكَفِّرَاتٌ فَإِنَّ مَنْ فَهِمَ التَّوْرَاةَ حَقَّ فَهْمِهَا يَعْلَمُ أَنَّ الْمُكَفِّرَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ التَّوْبَةُ وَالْإِقْلَاعُ عَنِ الذَّنْبِ، ثُمَّ تَقْدِيمَ الْقُرْبَأن يكون تَرْبِيَةً وَعُقُوبَةً. وَقَدْ أَخْبَرُهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُقْبَلُ فِيهِ عَدْلٌ يَفْتَدِي الْإِنْسَانُ بِهِ. قَالَ: وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ بِانْتِسَابِهِمْ لِلْأَنْبِيَاءِ لَا يَدْخُلُونَ النَّارَ أَوْ لَا تَمَسُّهُمْ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً؛ لِأَنَّ لَهُمُ الْجَاهَ وَالتَّأْثِيرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَرْضَوْنَ أَنْ يَتْرُكُوا أَبْنَاءَهُمْ فِي الْعَذَابِ، ثُمَّ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ شَفَاعَةَ الْأَحْبَارِ لِمَنْ يَنْتَسِبُ إِلَيْهِمْ. وَمَتَى ضَعُفَ الدِّينُ يُوجَدُ مِنْ رُؤَسَائِهِ مَنْ يُرَوِّجُ هَذِهِ الْعَقَائِدَ فِي الْعَامَّةِ لِمَا تَسُوقُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَنَافِعِ. وَكَذَلِكَ كَانَ الْيَهُودُ حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا فَمَحَا هَذِهِ الْعَقِيدَةَ لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ الْإِنْسَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مَرْضَاةُ اللهِ تَعَالَى بِالْإِيمَانِ الْخَالِصِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.فِي الْقُرْآنِ آيَاتٌ نَاطِقَةٌ بِنَفْيِ الشَّفَاعَةِ مُطْلَقًا، كَقَوْلِهِ تعالى فِي وَصْفِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ: {لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [2: 254] وَأُخْرَى نَاطِقَةٌ بِنَفْيِ مَنْفَعَةِ الشَّفَاعَةِ، كَقَوْلِهِ- عَزَّ وَجَلَّ-: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [74: 48] وَآيَاتٌ تُقَيِّدُ النَّفْيَ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: {إِلَّا بِإِذْنِهِ} [2: 255] وَقوله: {إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [21: 28] فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَحْكُمُ الثَّانِي بِالْأَوَّلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا فَنَحْتَاجُ إِلَى حَمْلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ أَيِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْإِذْنِ وَالْمَشِيئَةِ مَعْهُودٌ فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ فِي مَقَامِ النَّفْيِ الْقَطْعِيِّ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ ذَلِكَ بِإِذْنِهِ وَمَشِيئَتِهِ- عَزَّ وَجَلَّ-، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ} [87: 6، 7] وَقَوْلِهِ: {فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [11: 107] فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَصٌّ قَطْعِيٌّ فِي وُقُوعِ الشَّفَاعَةِ، وَلَكِنْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِإِثْبَاتِهَا، فَمَا مَعْنَاهَا؟الشَّفَاعَةُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ النَّاسِ: هِيَ أَنْ يَحْمِلَ الشَّافِعُ الْمَشْفُوعَ عِنْدَهُ عَلَى فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ كَانَ أَرَادَ غَيْرَهُ- حَكَمَ بِهِ أَمْ لَا- فَلَا تَتَحَقَّقُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا بِتَرْكِ الْإِرَادَةِ، وَفَسْخِهَا لِأَجْلِ الشَّفِيعِ.فَأَمَّا الْحَاكِمُ الْعَادِلُ فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ الشَّفَاعَةَ إِلَّا إِذَا تَغَيَّرَ عِلْمُهُ بِمَا كَانَ إِرَادَةً أَوْ حَكَمَ بِهِ؛ كَأَنْ كَانَ أَخْطَأَ ثُمَّ عَرَفَ الصَّوَابَ، وَرَأَى أَنَّ الْمَصْلَحَةَ أَوِ الْعَدْلَ فِي خِلَافِ مَا كَانَ يُرِيدُهُ أَوْ حَكَمَ بِهِ.وَأَمَّا الْحَاكِمُ الْمُسْتَبِدُّ الظَّالِمُ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ شَفَاعَةَ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَهُ فِي الشَّيْءِ، وَهُوَ عَالِمٌ بِأَنَّهُ ظُلْمٌ وَأَنَّ الْعَدْلَ فِي خِلَافِهِ، وَلَكِنَّهُ يُفَضِّلُ مَصْلَحَةَ ارْتِبَاطِهِ بِالشَّافِعِ الْمُقَرَّبِ مِنْهُ عَلَى الْعَدَالَةِ. وَكُلٌّ مِنَ النَّوْعَيْنِ مُحَالٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ إِرَادَتَهُ تَعَالَى عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ، وَعِلْمُهُ أَزَلِيٌّ لَا يَتَغَيَّرُ.قَالَ شَيْخُنَا: فَمَا وَرَدَ فِي إِثْبَاتِ الشَّفَاعَةِ يَكُونُ عَلَى هَذَا مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ وَفِيهِ يَقْضِي مَذْهَبُ السَّلَفِ بِالتَّفْوِيضِ وَالتَّسْلِيمِ، وَأَنَّهَا مَزِيَّةٌ يَخْتَصُّ اللهُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، عَبَّرَ عَنْهَا بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ الشَّفَاعَةُ ولَا نُحِيطُ بِحَقِيقَتِهَا مَعَ تَنْزِيهِ اللهِ جَلَّ جَلَالُهُ عَنِ الْمَعْرُوفِ مِنْ مَعْنَى الشَّفَاعَةِ فِي لِسَانِ التَّخَاطُبِ الْعُرْفِيِّ.وَأَمَّا مَذْهَبُ الْخَلَفِ فِي التَّأْوِيلِ فَلَنَا أَنْ نَحْمِلَ الشَّفَاعَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهَا دُعَاءٌ يَسْتَجِيبُهُ اللهُ- تَعَالَى. وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي الشَّفَاعَةِ تَدُلُّ عَلَى هَذَا، فَفِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُثْنِي عَلَى اللهِ تَعَالَى بِثَنَاءٍ يُلْهِمُهُ يَوْمَئِذٍ فَيُقَالُ لَهُ: «ارْفَعْ رَأْسَكَ وَسَلْ تُعْطَهُ وَاشْفَعْ تُشَفَّعُ» وَلَيْسَ فِي الشَّفَاعَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَرْجِعُ عَنْ إِرَادَةٍ كَانَ أَرَادَهَا لِأَجْلِ الشَّافِعِ وَإِنَّمَا هِيَ إِظْهَارُ كَرَامَةٍ لِلشَّافِعِ بِتَنْفِيذِ الْإِرَادَةِ الْأَزَلِيَّةِ عُقَيْبَ دُعَائِهِ، وَلَيْسَ فِيهَا أَيْضًا مَا يُقَوِّي غُرُورَ الْمَغْرُورِينَ اللَّذِينَ يَتَهَاوَنُونَ بِأَوَامِرِ الدِّينِ وَنَوَاهِيهِ اعْتِمَادًا عَلَى شَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ، بَلْ فِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْفَعُ أَحَدًا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا طَاعَتُهُ وَرِضَاهُ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (74: 48، 49) ووَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى (21: 28). اهـ.
|